شبهة انتحار النبي صلى الله عليه وسلم (تأصيل وتصحيح)

شبهة انتحار النبي صلى الله عليه وسلم (تأصيل وتصحيح)

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فلا يوجد شيء في كتب السنّة يشير إلى (الانتحار) ، وإنما هي شبهة روّجها الطّاعنون في السنّة النبوية وبصفة خاصة على صحيح البخاري ، ولو رجعنا إلى صحيح البخاري وإلى غيره ما وجدنا عنوانا بهذا الاطلاق : (انتحار النّبي)، إنما هو عنوانٌ مصنوعٌ للإثارة وللتّجارة  .  

 هذا عن حقيقة ” الانتحار” ، أما الواقعة التي لبسوا لها نعت الانتحار هي ما أخرجه البخاري في جامعه الصّحيح ، في كتاب التّعبير ، باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصّالحة ، وهو من حديث الزهري عن عروة عن عائشة ، وفيه بعد عرض خبر بدء الوحي : ( وفتر الوحي فترةً حتى حزن النّبي صلّى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذِروة جبلٍ لكي يُلقي منه نفسه تبدّى له جبريل فقال : ” يا محمد: إنّك رسول الله حقا “، فيسكن لذلك جأشُه ، وتقر نفسه فيرجع ، فإذا طالتْ عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروةِ جبلٍ تبدّى له جبريل فقال مثل ذلك)[1]

  هل الطّعن في سند الحديث أم في متنه؟

 المشكّـكون في السنّة طعنوا في متنه، وقابلهم بعض المشتغلين بالحديث من المتأخرين بتعليل الحديث في سنده، وفي صيغة التّحمل ،وهؤلاء مع أولئك اتّفقوا على ردّ حديثٍ لم يُكلفوا أنفسهم تخريجه كما فعل الإمام البخاري ،لا ألوم المشكّكين ، لأنّ المشكّك لايقتنع ، ولو آتيتهم بكل آية ما تبعوا فكرك ولا قبلوا حجّتك ، وأُحذر بعض المشتغلين بالحديث أن لا يُقدِّموا للطّاعنين ما يتوسّلون به للنيل من السنّة وترويج الشّبه، ولا يركب بعض أهل هذا الزمان على بعض اجتهادات المتقدمين ، فكلام بعض النقاد المتقدمين في أحاديث البخاري لا يعني رد ما في الصحيح جملة . 

 الطّعن في هذا الحديث هو طعنٌ في البخاري ، والبخاري حاز الدّرجة العليا في مراتب التّعديل بشخصه كما تدلّ على ذلك سيرته، فهو ” أمير المؤمنين في الحديث” ، وهذه اللّفظة لا تتقدم عليها غير رتبة الصحابة ،وعرّفها أبوحاتم الرازي فقال: ( من كان فوق العلماء في زمانه)[2]، وأطلقتْ على أفرادٍ معدودين مثل : حمّاد بن سلمة ، وهشام الدستوائي ، وشعبة بن الحجاج العتكي[3]، ثم نالها بصحيحه ، وقد أجمعوا أنّ صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله، يقول الإمام النّووي: ( اتّفق العلماء رحمهم الله على أنّ أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز الصّحيحان: البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمّة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ، ومعارف ظاهرة وغامضة)[4] كما يدلّ على ذلك محتواه ، ويقول محمد بن جعفر الكتاني : ( صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن المغيرة بن برزدبه البخاري ” …” وهو أصح كتاب بين أظهرنا بعد كتاب الله)[5]، والطّعن في البخاري طعنٌ في رجاله المتواجدين في سنده ، كل واحد من هؤلاء عنده الحديث ، وما البخاري سوى مُخرِّج ، ومنهم محمد بن شهاب الزهري راوي الخبر ، محمد بن شهاب إمام حجة ثبت ، حاز على علم مدينة النّبي صلّى الله عليه وسلم كلّه ، وسند الحديث المتكلم عليه أغلب رواته مدنيين، وقد أثنى عليه عمر بن عبد العزيز ، وهو أوّل من عُهد له جمع السنّة على رأس المائة الهجرية الأولى ، فقام بجمعها، وانتهتْ إليه ، وحين يقول ” فيما بلغنا” فقد بلغه هو وغيره ، وكان الزهري يذكر من حدّثه إذا سُئل عن الإسناد ، أخرج الحافظ ابن عبد البر بسنده إلى الإمام مالك بن أنس قال: ( كنّا نجلس إلى الزهري وإلى محمد بن المنكدر فيقول الزهري : قال ابن عمر كذا وكذا ، فإذا كان بعد ذلك جلسنا إليه فقلنا له: الذي ذكرتَ عن ابن عمر من أخبرك به ؟ قال : ابنه سالم ) ، وهذا الصنيع معروف عندهم في هذا الوقت، فقد قال حبيب بن الشهيد : قال لي محمد بن سيرين : سل الحسن ممّن سمع حديث العقيقة؟ فسألته فقال: من سمرة – يعني ابن جندب الفزاري- ) ، وعلّق الحافظ ابن عبد البر فقال: ( فهكذا مراسيل الثقات ، إذا سُئلوا أحالوا على الثّقات)[6]، هذا إذا سلّمنا بأنّ الرّواية من بلاغات الزهري ، فإن كانت من البلاغات فهي مما لم يُسأل الزهري عمّن حدّثه ، ولو سُئل لأجاب ، وأقوال الأئمة الأثبات من أمثال الزهري تُنزه عن الغمز، وإن كان الخبر على مقتضى السّند الأول زال إشكاله ، ولنا مزيدا من البيان والتوضيح فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

 هذه القصّة أخرجها البخاري بسنده إلى عائشة أم المؤمنين ، وهي من الأخبار والحكايات الواردة فيما صحّ من السنّة ، والخبر إذا كان في صحيح البخاري فله حُرمة وتقدير ،ويزعم المشكّكون أنّهم يفعلون ذلك بدافع من الغيرة على النّبي صلى الله عليه وسلم ، دفعهم ذلك لتخليصه من الكذب عليه ! ، فإن كانوا كذلك فلتكن غيرتهم عليه في كلّ الحالات لا في حالات منتقاة بعينها ،ثم إنّهم لن يكونوا أعرف من البخاري بالخبر حين أخرجه ، وأودعه في صحيحه ، ولو كان فيه شيء مما يظن هؤلاء لألحقه بالموضوعات والمنكرات والمكذوبات  التي ترك منها الألوف .

   لا يوجد في الحديث ما يدل على أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم ” انتحر” كما يروّجون، ولو أنّهم قالوا ” محاولة انتحار النّبي ” كنّا نُسلم لهم ونُناقشهم فيها بلطف ، لكنّهم أوهموا النّاس بالجزم أنه “انتحر”. والحديث فيه إجابة صريحة عليهم ، فالحوار بين رسولين : أحدهما ملائكي والثّاني بشري ، بدأ حياة الوحي لأوّل مرّة في حياته ، وكان الوحي يقع عليه شديدا ، وينزل عليه ثقيلا ، ثقيلٌ بالمعنى المادّي للكلمة ، لا يقدر إنسان أن يتحمّل ما تحمّله النّبي صلّى الله عليه وسلم، كيف وأنّ الله تعالى يقول : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله )[7]. فكيف بذاتٍ متحيزةٍ في زمان ومكان ، ضعيفة تتلقى الوحي وتبقى على حالتها الطبيعية، ومعلوم أنّ الوحي إذا نزل على النّبي صلى الله عليه وسلم كان يغير من حالته الطبيعية ، تلك هي إرهاصات الوحي ، وما عناه النّبي صلّى الله عليه وسلم منه ، ولهذا ساقه البخاري في باب بدء الوحي ، وقد رجع على خديجة يرتجف ويرتعد ارتجاف وارتعاد من أوشك على الموت حتى قال : ( لقد خشيتُ على نفسي ) ، فواسته خديجة بكلامها وطمأنته كما واساه جبريل وطمأنه بأنه رسول هذا الأمّة ، وما تقدّم من الحديث الذي ذكرناه يوضّح كل هذا ، وليس في حاجةٍ إلى بيان ، وما وقع له وقع لجدّه إبراهيم عليه السّلام ، جاء القصص القرآني من قول إبراهيم لربّه : (وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى ، قال أولم تومن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهنّ ياتينك سعيا ، واعلم أنّ الله عزيز حكيم[8].

 ومن القصص القرآني قوله تعالى في مثل هذه الحالة حكاية عن مريم البتول العذراء ( فأجاءها المخاض إلى جذع النّخلة ، قالت يا ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نِسيا منسيا ، فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريا)[9].

ومن القصص القرآني قصّة موسى عليه السّلام الذي خاطب ربه فقال: ( واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري )[10].

 فهذا هو حال الوحي مع الأنبياء والرسل ، وقصّة الأنبياء مع الجبال معروفة كقصّة موسى عليه السّلام ، والمعجزات والخوارق التي أوتيها ، وهي أمور معروفة وعادية لمن عرفها وفقهها .

      ومن القصص القرآني قوله تعالى : ( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم

 باتّخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم ، فاقتلوا أنفسكم ، ذلكم خير لكم عند بارئكم ، فتاب عليكم، إنّه هو التّواب الرحيم)[11].

 هذا من القصص القرآني الذي قصّه الله تعالى على نبينا وأمّته ، والمعروف في شريعة من قبلنا أنّ المُذنب إذا أراد التكفير عن ذنبه مثل الشّرك وغيره يُقتل أو يقدِّم نفسه قربانا لله تعالى لكنّ الله تعالى نسخه ، فالذي أفدى إسماعيل وأنجاه من الذّبح نهى محمّد صلّى الله عليه وسلم عن التردّي من أعلى الجبل ، فتردّيه لم يكن قتلا للنفس ظُلما أو تعدّيا أو رغبةً في تخليص نفسه ، لكنّه يريد تقديم نفسه لربه فنُهي عن ذلك ، فالفعل كان لغرض التشريع ، وهو أنّ ما كان لم يعدْ ممكنا ،وقتل النفس البريئة في شريعة محمّد محرّمة تحريما مُغلظا ، وقد أخرج البخاري ما يفيد ذلك، فقد روى بسنده المتّصل إلى أبي هريرة عن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: ( من تردّى من جبلٍ فقتل نفسه فهو في نار جهنّم يتردّى فيها ، خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تحسّى سُمـّا فقتل نفسه فسُمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بحديدةٍ فحديدته في يده يجَاُ بها في بطنه في نار جهنّم خالدا مخلدا فيها أبدا )[12]. فقد جاء التشريع من بعد ذلك بالتّحريم المغلظ.

    ولذلك جاء في الآثار الصّحيحة : ( أريت ليلة القدر فأُنسيتها )، وفي رواية أخرى ( فنُسِّيتُها)، وفي حديث ذي اليدين السلمي  : ( أنسيتَ أم قصُرت الصّلاة ؟ قال: لم أنس ولم تُقْصَر)، وفي الحديث : ( إنما أُنسَّى لأسنَّ )[13].

وبناء على ما تقدّم ، لا يمكن النّظر إلى مناسبة الوقائع على أنّها مناسبة حقيقية وراء حصول الواقعة ، فالمشاهدون لا يرون سوى ظاهر الأشياء ، ولذلك لا يمكن جعل فتور الوحي سببا رئيسا في حصول التردّي، قد يكون سببا ظاهرا لكنّه غير رئيس ،كما لا يمكن النّظر إلى وقائع الأنبياء في المنامات واليقظة ، وفي الأحوال العادية وغير العادية أنّه خارج عن دائرة المألوف، وأنّه بعيد عن المعقول ، فالوقائع مقصودة ، وفيها من الحكم والعبر والدّلالات الشيء الكثير، وهذا الحديث هو من الأخبار التي لها صلة بحياة النّبي صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة ، بل توجد أخباٌر أخرى لها صلة به قبل مولده ، بل يوم كان نطفة فنجّى الله جدّه الأعلى إسماعيل من الذّبح ، ونجّى والده عبد الله من أن يقدّم قربانا ففدي بإبل كثيرة ، وها هو هنا ينجّيه من التردّي من الجبل ، ونجّاه الله من الموت المحقق يوم حنين ، وهو راكب على بغلته، وانهزم الصحابة وتراجعوا أمام قوّة العدو ، فكان يضرب ويقول: ( أنا النّبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)[14].

 ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر ، ( قل إنمّا أنا بشر مثلكم يوحى إليّ)[15] ، فمحمّد صلّى الله عليه وسلم تصّرف ببشريته ، لكنّ الله تعالى أوحى إليه بالصّواب، فهو يرعاه ، ويحوطه بعنايته، ألم يقل له في سورة الضّحى : ( ألم يجدك يتيما فآوى ، ووجدك ضالّا فهدى ، ووجدك عائلا فأغنى)، لنتأمل وضع محمّد صلّى الله عليه وسلم قبل مجيء جبريل كيف كان، ووضعه بعد المجيء ، لقد اطمأنّ تماما ، وتغيّر حاله بعدها ، وكّلما وقع منه ذلك جاءه جبريل فطمأن فؤاده ، لأنّ الوحي لم يكن في لحظة واحدة بل استرسل واستمرّ في الوقت ، إذا جاز أن نقول : إن محمّدا صلّى الله عليه وسلم انتحر فهذا يُجوز القول بأنّ في إيمان إبراهيم شكا ، وأن مريم البتول تتمنّى الموت، وأن موسى لما وضع في التّابوت وقُذف به في اليمّ أريد به القتل ،وغير ذلك .

3-  من فقه البخاري رحمه الله .

هل كان البخاري لا يعلم ما في هذا الحديث حتى جاء به هنا؟

الجواب ما يلي:

أ- أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب التّعبير ، والتّعبير هو العبور من ظاهر المعبَّر إلى باطنه ، وقيل هو العبور من حال على حال ، ولم يفهم القوم مغزى البخاري من إيراده لحديث محاولة التردّي من الجبل ، فعبّروا بظاهر الواقعة ، ثم إنّ البخاري أخرجه في باب بدء الوحي ، فهذه الواقعة في بداية الوحي ، فوجود هذا الحديث في هذا الكتاب من هذا الباب مشروعٌ ، ولا إشكال منهجي فيه.

ب- من حيث التّخريج ، فخبر التردّي من الجبل هو طرفٌ من حديث جاء فيه من حديث محمد بن شهاب الزهري : ( ثم لم ينشب ورقةُ أن توفي ، وفتر الوحي فترة حتى حزن النّبي صلّى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من رءؤس شواهق الجبال...) . فهذا الطرف يقولون إنه من بلاغات الإمام الزهري ، فهل قوله ” فيما بلغنا” هي بالمعنى اللغوي أم بالمعى الاصطلاحي ، فإن كانت الصيغة بالمعنى اللغوي فالمعنى ثابت من السياق كما سيبينه الكرماني، وإن كان المراد المعنى الاصطلاحي  فهذا لن يكون إلا بإسناد الباب كما قدمنا بيانه ، وهو قوله: (فأخبرني عروة عن عائشة ) ، وهو ما ذهب إليه الكرماني قائلا: ( هذا هو الظّاهر، ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور) ، هكذا صاغه الحافظ ابن حجر في الفتح[16]، ووقع عند الكرماني قوله : (” وفيما بلغنا” أي : في جملة ما بلغ إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فإن قلت من هاهنا على آخر الحديث يثبت بهذا الإسناد أم لا ، قلت : لفظه أعم من الثّبوت به أو بغيره لكن الظاهر من السياق أنه بغيره)[17]. وذكر الحافظ ابن حجر أن ابن مردويه أخرجه في التّفسير من طريق محمد بن كثير عن معمر بإسقاط قوله ” فيما بلغنا ” فصار الكل على رواية الزهري عن عروة عن عائشة ، ولم يرجّحه . وأقوى من دافع عن النّبي صلّى الله عليه وسلم وهو في هذه الفترة من بداية الوحي الحافظ أبوبكر الإسماعيلي فقد نقل عنه الحافظ ابن حجر قوله  : ( وأما إرادته ألقاء نفسه من رءوس الجبال بعد ما نُبئ فلضُعف قوته عن تحّمل ما حَمِله من أعباء النبوة، وخوفا مما يحصل له من القيام بها من مباينة الخلق جميعا، كما يطلب الرجل الرّاحة من غمٍّ يناله في العاجل بما يكون فيه زواله عنه، ولو أفضى على إملاك نفسه عاجلا، حتى إذا تفكّر فيما فيه صبره على ذلك من العقبى المحمودة صبر واستقرت نفسه) ، وتبعه الحافظ ابن حجر في شرح مقتضيات الرواية ، وهو قبولٌ واضحٌ منه ،واعتراف منه بسلامة الرواية ، يقول: ( قلت: أما الإرادة المذكورة في الزيادة الأولى ففي صريح الخبر أنها كانت حزنا على ما فاته من الأمر الذي بشّره به ورقة، وأما الإرادة الّثانية بعد أن تبدّى له جبريل وقال له إنّك رسول الله حقّا فيحتمل ما قاله ،والذي يظهر لي أنّه بمعنى الذي قبله ، وأما المعنى الذي ذكره الإسماعيلي فوقع قبل ذلك في ابتداء مجيء جبريل، ويمكن أن يؤخذ ممّا أخرجه الطبري من طريق النّعمان بن راشد عن ابن شهاب فذكر نحو حديث الباب، وفيه: ” فقال لي يا محمد أنت رسول الله حقا ، قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق الجبل” أي من علوه )[18].

 وأرى – والله أعلم- أن قول الزهري ” وفيما بلغنا” إنما هي امتداد لقوله ” فأخبرني عروة” لأنّ الحديث واحدٌ ، في بابٍ واحدٍ .

والإسناد الأول فيه الزهري عن عروة عن عائشة، وهو سند معدود في أصحّ الأسانيد. وفي الموطأ منه أحاديث كثيرة شرحها الحافظ ابن عبد البر في التّمهيد[19].

 قلت : إن لم يكن بالإسناد الأول لزم أن يكون حديثا آخر ، بسند آخر، فَـلِمَ أدرج البخاري خبرا في خبر؟ لا أظن أنّ البخاري يفوته ذلك ، فبما أنه ساقه بسند واحد فهو بنفس السند ، فهذا معتقدنا في منهجه .

 ثم إنّ التّعلق بأنّ عائشة رضي الله تعالى عنها روتْ ما لم تُدركه ، ولم تُدرك هذا الوقت الذي تتحدّث فيه عن بدء الوحي للرّسول صلّى الله عليه وسلم ، الجواب : إنّ الخبر يتعلّق بالنّبي صلّى الله عليه وسلم ، فهي زوجه ، وأمّ المؤمنين ، ومن بيت النّبوة ، وقد سمعتْ ذلك من النّبي صلى الله عليه وسلم ، أو من أبيها أبي بكر أو من أحد الصحابة الكبار ، وحاشاها أن تكذب على النّبي صلى الله عليه وسلم ، وهي تعلم أكثر من غيرها بالحديث المرفوع : ( من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ، ثم إن هذا من صدقها في رواية واقعة تتعلق بمواساة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها ، فقد روتها على التمام .

خلاصة :

هذه شبهة من الشبه التي روجها الطاعنون في الحديث النبوي الشريف يريدون بها إبطال السنة النبوية، والتشكيك في صحيح البخاري ، آثرنا أن نجيب عليها إجابة علمية ، سائلين الله تعالى أن ينفع بها، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

مصادر ومراجع البحث :

– المصحف المحمّدي برواية ورش عن نافع ، طبعة محمّد السّادس لنشر المصحف الشّريف ، الطبعة الثالثة 1431ه/2011م ، مطبعة فضالة، المحمّدية ، المملكة المغربية .

– أبوحاتم الرّازي وجهوده في خدمة السنّة النبوية ، الجزء الخامس، علم المصطلح والنّقد ، تأليف ذ. محمد خروبات ، المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش ، الطبعة الأولى2007م.

– التّمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ ابن عبد البر القرطبي النّمري( 463ه) ، المجلد الأول من تحقيق الأستاذين : مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري ، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، المملكة المغربية ، الطبعة الثالثة 1988م.

– التّمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ ابن عبد البر القرطبي النّمري( 463ه) ، الجزء الثامن ، تحقيق محمد الفلاح ، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب. الطبعة الثانية 1982م

– تقدمة المعرفة بكتاب الجرح والتعديل لعبد الرحمن أبي حاتم الرّازي ( ت 327ه) ، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن ، الهند ، دار الكتب العلمية، تحقيق المعلمي اليماني ، الطبعة الأولى 1953م، بيروت ، لبنان.

– الرّسالة المستطرفة بيان مشهور كتب السنّة المشرفة لمحمد بن جعفر الكتاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان ، الثانية 1400ه.

– صحيح محمّد بن إسماعيل البخاري بشرح الحافظ ابن حجر العسقلاني ( 852ه) ، المسمى بفتح الباري، تحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومحمد فؤاد عبد الباقي ، طبعة دار الفكر للطباعة والنّشر والتوزيع .

–  صحيح محمّد بن إسماعيل البخاري بشرح الكرماني ، دار إحياء التّراث العربي ، بيروت،  لبنان، الطبعة الثانية  1401ه/1981م .

– صحيح مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري( 261ه)  ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، طبعة دار الحديث. مصر.

– صحيح مسلم بشرح الإمام النّووي ، المطبعة المصرية بالأزهر، الأولى1347ه/ 1929م.

– موطأ مالك بن أنس الأصبحي بشرح محمد الزرقاني ، دار الفكر للطّباعة والنشر والتوزيع ، طبعة 1981م.

[1] – صحيح البخاري بشرح الحافظ ابن حجر 12/351-352 رقم الحديث 6982.

[2] – تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي ص 126.

[3] – أنظر ما أثبتناه في كتاب علم المصطلح والنقد من ( أبوحاتم الرازي وجهوده في خدمة السنة النبوية) ، 5/ 295.

[4] — شرح النووي على صحيح مسلم 1/14، الطبعة الأولى 1347ه/1929م.

[5] – الرسالة المستطرفة بيان مشهور كتب السنة المشرفة ص 9.

[6] – التمهيد 1/37.

[7] – سورة الحشر الآية 21.

[8] – سورة البقرة الآية 259.

[9] – سورة مريم الآية 23.

[10] سورة طه الآية ( 28-31).

[11] سورة البقرة الآية 53.

[12] – أخرجه البخاري في كتاب الطب ، باب شرب السم والدّواء به…، الفتح 10/247 رقم لحديث 5778[12].

[13] – الحديث من بلاغات مالك في الموطأ وهو صحيح ، انظر الموطأ بشرح الزرقاني 1/205 ، باب العمل في السهو ، الحديث 221.

[14] – متفق عليه ، أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب المغازي ، 8/28 رقم الحديث 4316 ، ومسلم بن الحجاج في صحيحه ، كتاب الجهاد والسير ، باب في غزوة حنين ، 3/1400 رقم الحديث 1776.

[15] – سورة الكهف الآية 105.

[16] – أنظر فتح الباري 12/359.

[17] – أنظر الكوكب الدراري شرح صحيح البخاري أو صحيح البخاري بشرح الكرماني  24/97.

[18] فتح الباري 12/360-361.

[19] – ينظر الجزء الثامن ، تحقيق محمد الفلاح ، الطبعة الثانية ، 1982م ، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب.

الدكتور محمد خروبات – جامعة القاضي عياض، مراكش ، المغرب