التواصل الاجتماعي: آفاق وأعماق
التواصل الاجتماعي: آفاق وأعماق
لقد خلق الله عزوجل الإنسان وزوَّده بوسائل تمكِّنه من العيش، والاندماج مع الآخرين أينما كان، والازدياد من العلوم والمعارف، وتلقي الأخبار السماوية والأرضية.
قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون). [النحل: 78].
وقال تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون، وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون). [المؤمنون: 78-79].
وقال تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون). [السجدة: 9].
وقال تعالى: (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون، قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون). [الملك: 23-24]
نجدُ في هذه الآيات الكريمات امتنان الله تعالى على بني آدم بما منحهم إياه مِنْ السمع والأبصار والأفئدة، وقد جاء هذا في أربع آيات تبيانًا لعظم هذه النعم، وإظهارًا لضرورتها وأهميتها.
وقد أخبرنا الله تعالى في آية النحل أنَّه جعل لنا هذه الوسائل لنشكر، ومِن الجلي أنْ الشكر يكون عند إدراك قيمتها، ولا تُدرك قيمتها إلا عند استعمالها، والتمتع بما تجلبه من فوائد لا تعد ولا تحصى.
وتقول القاعدة المقاصدية: (الامتنانُ بالنعم يشعر بالقصد إلى التناول والانتفاع، ثم الشكر عليها).
ونجد في آيتي المؤمنون والملك ذكر ذرء البشر[1] في الأرض، بعد ذكر وسائل التواصل الممنوحة لهم، وفي هذا إشارة إلى الانتشار فيها، ولا يتم هذا الانتشار إلا بتلك الوسائل، ولا يتمُّ استعمال تلك الوسائل تمامَ الاستعمال إلا بذلك الانتشار.
ومن حكمة خلق هذه الوسائل: تلقي أخبار السماء، للأنبياء مباشرة، ولغيرهم بواسطتهم:
قال تعالى: (وما كان لبشر أنْ يكلمه الله إلا وحيًا أو مِنْ وراء حجاب أو يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم) [الشورى: 51].
وفي الآية دلالة صريحة على تواصلٍ بين السماء والأرض.
يقودنا كلُّ هذا إلى أهمية التواصل، وأهمية وسائله، وأنه لا غنى للإنسان عنها.
وإذا جمعنا إلى هذا الأمرَ بالتعارف الوارد في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير) [الحجرات: 13]، أدركنا أنَّ التواصل مطلوبٌ بلهَ أنْ يكون شيئًا متروكًا للعادة الشخصية، والحاجة الفردية، والرغبة الذاتية.
ولقد تواصل الأنبياءُ مع أقوامهم، وتواصل المرسلون مع أممهم، وتواصل النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه وأمته وأهل عصره، باللسان، والقلم، وإرسال الرسل، تواصل مع الأصدقاء والأعداء، ودعا القرباء والغرباء، ومضى على هديه أصحابُه، والتابعون، والعلماء في كلِّ زمان ومكان، ولم نرَ مَنْ منعَ وسيلةً يَبْلُغُ مِن خلالها ما يريد، ويُبَلِّغُ بها ما يحب.
وقد رأينا الإنسان -لرغبته في إيصال صوته، أو مشاعره إلى الآخرين- يكتب على الجدران، والحيطان، أقوالًا وأشعارًا وحكمًا يقرؤها الناس في حياة كاتبها وبعد حياته.
ورأينا من يقول:
ولا بدَّ من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ومَنْ يقول: إنَّ الحديث جانبٌ من القِرى.
وظهر مِنْ بواعث رغبة الإنسان في التواصل أن اخترع الرسائل إلى الأماكن القريبة والبعيدة على حد سواء.
واستخدم الطيرَ لينقل تلك الرسائل فضلًا عن استخدام الإنسان.
وفي هذا إشارة إلى ارتباط هذه الرغبة بالفطرة، والقاعدة المقاصدية تقول: (مقاصد الشريعة ومصالحها تعرف بالفطرة).
وقد حقق الإنسانُ من التواصل مكاسبَ كبيرة، في الدنيا والدين، وكلما ازدادتْ مكاسبُه زادتْ رغبتُه في التواصل، وكلما ازداد تواصله زادت مكاسبه.
واليوم وقد أتاح الله للبشر ما لم يكن متاحًا، وصار كثير مما كان في عداد الخوارق والكرامات في عداد العادات، فليس من الممكن وضعُ حدودٍ تفصل البشر بعضهم عن بعض، ولا إقامةُ سدودٍ تمنعُ اكتشاف ما لدى الآخرين، ولا فرضُ قيودٍ تنال من حرية الساعين إلى تجاوز مكانهم وزمنهم.
إنَّ هذا كله يبيِّن لنا أنَّ التواصل حاجة إنسانية، ولا غنى عنها، ولا سبيل إلى تجاهلها، والأصل في الإنسان أنَّه كائن اجتماعي، وأمَّا العزلة فهي استثناء، ومهما مال البعض إليها، فإنها تبقى عزلة محدودة.
وإذا كان ذلك كذلك فلم يبقَ سوى ترشيد هذا التواصل، وتسديد ذلك التعارف، وتقييد ما قد يحصل من انفلات.
ومن المهم أن نبقى على ذُكر من القواعد المقاصدية الجليلة:
- الأصل في الإنسان وتصرفاته الحرية والإباحة.
- ما مِنْ حادثة إلا ولله فيها حكمٌ.
- الشريعة مبنية على الفطرة.
- المسلَّمات العقلية والحسية معتبرة في الشرع.
- وضع الشرائع إنَّما هو لمصالح العباد.
- المصالح المعتبرة شرعًا هي ما يقيم الحياة الدنيا للحياة الآخرة لا اتباع الأهواء.
وإذا قيل: إنَّ في وسائل التواصل اليوم أضرارًا وأخطارًا نقول: هذه الأضرار والأخطار موجودة في التواصل قديمًا وحديثًا، فإنِّها ناتجة عن الإنسان لا عن الآلة، والإنسان قد يسيئ استعمال لسانه أو قلمه في اللقاء المباشر، أو في المكاتبة أو المراسلة، أو عبر الوسائط والوسطاء، وما في وسائل التواصل اليوم سوى أنَّها قرَّبت البعيدَ، واختصرت الزمنَ، وسهلت الصعبَ.
والقاعدة المقاصدية تقول:
- (المصالح والمفاسد في الحياة الدنيا إنما تُفهم بمقتضى ما غلب).
وتقول:
- (المصالح المشروعة إذا اكتنفها ما لا يُرضى شرعًا، يجوز الإقدام على تحصيلها).
وهذه الوسائل تحقق للإنسان مصالح جلى، في إطار سعيه وتحركه ضمن المقاصد الشرعية الخمس، وقد يكون ما في هذه المصالح ما هو ضروري وحاجي وتحسيني، أو ما هو ضروري أو حاجي أو تحسيني.
والقاعدة المقاصدية تقول: (كلُّ ما يخدم مصالح الدارين فهو مقصود للشارع).
وتقول أخرى: (الحرج مرفوع غير مقصود).
إنَّ وسائل التواصل وسائل -كما سُمِّيت-، فإذا استُخدمت بضوابطها المقررة شرعًا فلا حرج في ذلك، والقاعدة المقاصدية تقول: (وسيلة المقصود تابعة للمقصود).
وتقول أخرى:
- (الوسيلة المحضة يحصل بها المقصودُ كيفما كانت).
ودليل لزوم الضوابط الشرعية: القاعدة المقاصدية الأخرى:
- (المقاصد المشروعة لا تسوِّغ الوسائل الممنوعة).
***
[1] “الذرء هو إظهار الله تعالى ما أبداه، يقال: ذرأ الله الخلق، أي: أوجد أشخاصهم”. المفردات في غريب القرآن (ص: 327).
د. عبد الحكيم الانيس