صور طريفة من أداء الأمانة إلى أهلها

صور طريفة من أداء الأمانة إلى أهلها

صور طريفة من أداء الأمانة إلى أهلها

 

مِنْ أخلاقِ الإسلامِ النبيلةِ ردُّ الأمانات إلى أهلها، ورأيتُ في تراجم العلماء أخبارًا جليلة في ذلك، فرأيتُ جمعَها ونشرَها عسى أنْ نتعلمَ منها، ونتأدبَ بها:

***

  • فمنهم: الإمام عبدالله بن المبارك المَرْوَزِي (118-181):

قال القشيري في “الرسالة” (1/ 237)، والقرشي في “الجواهر المضية في طبقات الحنفية” (1/ 532)، والخادمي في “بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية” (1/ 146):

“قيل: رجعَ ابْنُ ‌المبارك مِنْ مرو إلى الشام في ‌قلمٍ استعارَه فلم يردّه على صاحبه”.

وتقع مرو في تركمانستان.

*** 

  • ومنهم: الإمام الفقيه الصالح يحيى بن عمر الكناني الأندلسي القيرواني (213-289):

قال ابنُ فرحون في “الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب” (2/ 356):

“ذُكر أنه رجعَ من القيروان إلى قرطبة بسبب دانقٍ كان عليه لبقّالٍ فخُوطِبَ في ذلك فقال: ردُّ دانقٍ على أهله أفضلُ مِنْ عبادة سبعين سنة”.

والدانق مكيالٌ يُستعمل في الوزن والكيل في العصور السابقة، ويساوي عند الحنفية: (521) غرام، وعند الجمهور: (496).

***

  • ومنهم الفقيه عبد العزيز بن علي، أبو الفضل الأُشنُهي (ت: ؟).

جاء في ترجمته في “طبقات الفقهاء الشافعية” لابن الصلاح (1/ 550):

“من أهل أُشنُه: بلدة في حدِّ أذربيجان، وهو ظنّي.

صاحب “الفرائض” الكتاب المشهور…

قال الحافظ أبو سعد السمعاني: وردَ بغداد، وتفقّه على أبي إسحاق الشيرازي [393 – 476]، وسمعَ بها الحديثَ من أبي جعفر ابن المُسْلِمة، وغيرِه…

كان رجلًا زاهدًا، عارفًا بالمذهبِ، والحديثِ، صنَّفَ في المذهب والفرائض. قال ذلك صاحبُ “الإلحاق”، وقال: أخبرني أنه رجعَ مِنْ بلده إلى بغداد ‌لردِّ ‌قلمٍ استعارَه”.

وفي “طبقات الشافعية” للأَسنوي (1/99): “أشنُه قرية مِنْ بلاد أذربيجان متصلة بإربل”.

***

ومن الأمانات: الكتبُ المستعارةُ، وعلى المستعيرين مِنْ حملة العلم وطلابه والمستفيدين حفظُ هذه الأمانة والمبادرة إلى ردِّها إلى أصحابها بعد استكمال الحاجة منها، وعدمُ حبسها بلا داعٍ ولا ضرورةٍ.

ويجبُ أن يكون لدى الإنسان دفترٌ يكتبُ فيه ما له وما عليه، ومِن ذلك أمانات الناس قِبله، على مختلفِ أصنافها.

وقد رأيتُ في وصية الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852) التي ساقها تلميذه السخاوي في “الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر” قولَه (3/ 1205):

“وفي كتبي جملةٌ كثيرة مِنْ أجزاء “‌المحمودية”، مِنْ أوقاف [الخزانة] ‌”المحمودية”، وليُعجلْ بإفرادها وتحويلها إلى المدرسة ‌المحمودية”.

وعلقَ السخاوي على الوصية بقوله (3/ 1207): “نفَّذَ ولدُهُ وباقي الورثة غالبَ ذلك. وأمَّا الكتبُ، فما وفَوْا بقصده، حتى ولا في كتبِ الأوقافِ التي كانتْ تحت يده والأجزاء الحديثية، وتفرقَ كلُّ ذلك”! وهذا مِنْ مخاطر الاستعارة.

وقد بادرَ الإمامُ النوويُّ –وقد استشعر دنو الأجل- إلى إرجاع الكتب المستعارة جميعها بنفسه، وعاد إلى أهله في “نوى”.

قال السخاوي في “المنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي” ص (220): “أفاد التاج السبكي في “الطبقات الوسطى” أنه قبل ظهورهِ إلى “نوى” ردَّ الكتبَ المستعارةَ عنده مِن الأوقافِ جميعَها”.

ورأيتُ في مسودة كتاب “الأزهار الغضة في حواشي الروضة” للسيوطي (ت: 911) ورقةً بخطه موضوعةً في أثناء الكتاب يَذكرُ فيها استعارتَه بعض أجزاء “فتح الباري”، وهذا نصُّها:

“الحمد لله. عند كاتبهِ الفقيرِ إلى عفو ربه عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي الجزءُ الثالثُ مِنْ “شرح البخاري” لشيخ الإسلام حافظ العصر قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر عارية مِنْ مالكهِ الجنابِ العالي السيفي فارس [كأنه هكذا] حفظه الله تعالى. وكتبَ عبدَالرحمن بن أبي بكر السيوطي”.

ورأيتُ شيخَنا الأستاذ الشيخ عبدالكريم الدَّبان التكريتي (ت: 1413) رحمه الله تعالى يضع ورقة في كل كتابٍ استعاره مكتوبًا فيها اسمُ المعير.

ولم يكن يستقصي ما يُعيرُه، إلى أن استعار منه بعضُ مَنْ يترددُ عليه كتابه “الفتاوى” بخطه، وأبطأ بردِّه، ولم يعد يَذكر الشيخُ مَنْ يكون.

وكنتُ نقلتُ نسخةً منه بخطي، وقابلتُها بخطِّ الشيخ، فقدمتُ النسخةَ إليه فسُرَّ بذلك كثيرًا. ثم أعاد المستعيرُ الكتابَ بعد مدة، وصوَّر الشيخُ منه نسخًا وأهداها إلى طلابه، وما زلتُ أحتفظ بتلك الهديةِ إلى اليوم.

وقد دخلت المعاناةُ مِنْ إهمال ردِّ الأمانات في التراث الشعبي، فنُسب إلى جُحا أن جيرانه طلبوا منه استعارة “سُلّم”، فأبى وقال: ظهري يؤلمني، فقالوا: وما علاقة هذا بهذا؟ قال: لأنكم لن ترجعوه، وسأضطر إلى استرجاعه وحمله بنفسي!

ومِنْ طرائف الناس أن شخصًا طلب من آخر قرضًا، فقال له: قبِّلْ يدي أعطك، فاستغربَ المستقرضُ وقال: لم؟ فقال له: لأني سأقبِّلُ يدَك ورجلَك حتى تعيد إليَّ ما اقترضتَه!

وفي الأمس كنتُ أنظرُ في سجل الاستعارات فرأيتُ كتبًا استعارها مني مستعيرون، ولم يُرجعوها ومضى عليها سنوات، تزيدُ في بعضِها على ربع قرن!

ونجدُ في عددٍ غير قليل من الكتب الخطية تناثرَ أجزاء الكتاب الواحد في خزائن متعددة، وقد تكون متباعدة جدًّا، ومِنْ أسبابِ هذا الاستعارةُ والتراخي في الردِّ، ثم تعرضُ عوارض، ويفوتُ إرجاعُها.

والحمدُ لله ربِّ العالمين القائل: (إنَّ الله يأمركم أنْ تؤدوا الأمانات إلى أهلها) [النساء: 58].

***

د. عبد الحكيم الانيس