الإمام البخاري بين العصمة والعبقرية

الإمام البخاري بين العصمة والعبقرية

الإمام البخاري بين العصمة والعبقرية:

 

يستند بعض الطاعنين والمشككين في صحيح البخاري إلى تساؤلهم: هل يُعدُّ البخاري معصومًا من الخطأ؟ فإذا كان البخاري، وهو من أعظم من صنف في السنة، غير معصوم، فهل يمكن القول بأن من هم دونه معصومون؟ وبما أن رواة السنة ليسوا معصومين والخطأ ممكنٌ عليهم، فما سبب هذه القداسة التي تُعطى لرواياتهم، بما في ذلك روايات البخاري؟

هل من الممكن أن يكون ما رووه خطأ؟ ومن الأمثلة على ذلك الأحاديث المتعلقة بعذاب القبر، التي تتعارض مع العقل وتتناقض مع القرآن -بزعمهم-، فقد تبدو هذه الشبهة للوهلة الأولى منطقية لمن لم يدرس الموضوع بعمق.

وقد كان أول من طرح هذا الافتراض العقلي -تاريخيًا- هو ابن برهان البغدادي (ت518هـ) في مسألة إفادة خبر الواحد للعلم. وفي العصر الحديث، يثير بعض الحداثيين العرب هذه الشبهة مجددًا.

ويمكن الرد على هذه الشبهة بما يأتي:

أولًا: يُقرّ أهل السنة بأن العصمة خاصة بالأنبياء والرسل، وهذا متفق عليه بينهم، فلم يدّعِ أحدٌ أن البخاري أو غيره من رواة السنة معصومون، كما أن الصحابة أيضًا ليسوا معصومين؛ لذا، فإن وقوع الخطأ من البخاري أمر ممكن؛ لأنه ليس معصومًا.

ثانيًا: إن ما يقدمه الإمام البخاري من أحاديث هو علم نظري يستند إلى الفحص والدراسة، وهذا العلم يتوافر لأهل التخصص وليس لعامة الناس، الذين يتبعونهم في ذلك.

ثالثًا: عندما حكم علماء الحديث بصحة أحاديث صحيح البخاري، لم يستندوا إلى عصمة الإمام البخاري، بل اعتمدوا على عدة أسباب، منها:

  1. إجماع العلماء على مكانة البخاري في هذا المجال واعترافهم بقدراته في معرفة الأحاديث وعللها.
  2. إجماع العلماء على صحة أحاديث صحيح البخاري ووجوب العمل بما فيها.

قال ابن الصلاح (ت463ه): (الأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المنبني على الاجتهاد حجةً مقطوعا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك)(معرفة أنواع علوم الحديث (ص:۲۸).

ونقل هذا الإجماع ابن القيسراني (ت507ه): في كتابه (مسألة التسمية: ص20)، وقال ابن خلدون وهو يتحدث عن الصحيحين: (فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول، والعمل بما فيهما، وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفع). (تأريخ ابن خلدون: ۱/۳۸۹)، وكذا نقل غيرهم من العلماء.

وهذا يعني أن صحيح البخاري ليس عملًا فرديًا، بل هو نتيجة جهد جماعي من أئمة وحفاظ، إذ درس علماء السنة الكتاب بعمق ونقدوا أحاديثه، مما أدى إلى استقرار الرأي على صحة معظم أحاديثه؛ لذا يُعدُّ أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى.

ولنفترض مثالًا واقعيًا: إذا أعدّ طالب بحثًا وحكمت لجنة مختصة بأنه يستحق درجة الامتياز ولا يحتوي على أخطاء علمية، ثم جاء شخص آخر ليقول إن البحث مليء بالأخطاء، فإنه سيطعن ليس في الطالب وجهده فحسب، بل فيه وفي اللجنة معًا.

وهذا ما يفعله منكرو السنة؛ فهم لا يطعنون في البخاري فحسب، بل في الأمة بأسرها ويتهمونها بالجهل لأنها اتبعت البخاري طوال هذه القرون، فهل يُعقل أن يترك الله -سبحانه وتعالى- الأمة التي فضّلها تعبد الله على خطأ طوال هذه المدة؟

ولقد ظهرت عناية العلماء بكتاب “صحيح البخاري” في جوانب عدة، منها:

أ – قام العلماء بعد الإمام البخاري بتصحيح الأحاديث التي أخرجها، وأدرجوها في مؤلفاتهم، مما يدل على التأثير العميق لعمله، كما استفاد الإمام البخاري من الأئمة السابقين مثل (ابن جريج والأوزاعي ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح)، مما جعل كتابه جزءًا من سلسلة طويلة من المصنفات.

ب – تمت دراسة أحاديث “صحيح البخاري” وسبرها من قبل علماء مثل الدارقطني (ت385ه)، الذين أقروا بصحة معظم الأحاديث، مع وجود بعض الانتقادات في عدد قليل منها، وهذه كان الحق فيها مع البخاري كما ذكر العقيلي (ت 322ه).

جـ – هناك العديد من المستخرجات على أحاديث “صحيح البخاري”، مما يشير إلى شهرة هذه الأحاديث وكثرة طرقها وأسانيدها، وقد بلغ عدد الكتب المؤلفة المستخرجة على أحاديثه زهاء عشرة كتب.

رابعاً: عدم عصمة الإنسان لا يعني أنه يرتكب الأخطاء في كل عمل، فقد اتفق العلماء على صحة أحاديث البخاري، مما يعكس الإجماع على فائدتها العلمية.

خامسًا: لا يكفي مجرد احتمال وجود الخطأ لإثبات وجوده بالفعل، فمجرد القول بأن البخاري بشر قد يخطئ لا يعني بالضرورة وجود أخطاء في صحيحه، فالبشرية لا تعني وجود الخطأ بشكل حتمي في كل ما يقوله الشخص، وعلى من يدَّعي وجود أخطاء في صحيح البخاري أن يقدم الدليل والتبرير على ذلك على وفق قواعد النقد عند المحدثين ومنهجهم، وليس مجرد استناده إلى كون البخاري بشرًا.

كما أن القول بأن البخاري بشر وبالتالي لابد أن يكون في عمله أخطاء، هو تجاهل لتخصصه العلمي وجهوده المبذولة في هذا المجال طوال حياته، والاعتراف الذي نال به هذه المكانة العظيمة التي شهد له بها جهابذة المحدثين وأهل النقد بالنبوغ في هذا الفن.

عبقريته:

فمن مظاهر عبقريته الصرامة التي اتبعها في النقل والرواية، فقد اتبع معايير صارمة في انتقاء الأحاديث الصحيحة، وكتابه “الصحيح” ليس مؤلَّفًا من آرائه الخاصة، وإنما هو انتقاء وجمع وترتيب لأحاديث موجودة متصلة الأسانيد إلى النبي ﷺ، وهذه الأحاديث مدونة في الكتب التي قبل البخاري، فجمع فقط ما اعتبره صحيحًا دون غيره، على عكس السابقين الذين لم يفرقوا بين الصحيح وغيره، فالذي جعل العلماء يقبلون عمل البخاري هو أنه طبق قواعد المحدثين (المنهجية)، إذ كان شديد الصرامة في الانتقاء والانتقاد، فاختار أعلى درجات الصحة فيما أورده. واشتهر بأنه لم يدرج في كتابه إلا ما كان صحيحًا، وترك حتى من الصحيح ما خشي أن يطول الكتاب. فقد انتقى كتابه من ستمائة ألف حديث خلال ست عشرة سنة، ليكون حجة بينه وبين الله تعالى كما نصَّ على ذلك -رحمه الله تعالى-.

هذا يؤكد أن صحيح البخاري ليس مجرد مشروع شخصي للبخاري، بل أصبح مشروعًا للأمة الإسلامية كلها؛ وذلك لأنَّ العلماء في عصر البخاري قد وافقوه وتلقوه بالقبول، وأجمعوا على صحة جميع ما فيه سوى أحرف يسيرة، فأقروه: (والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة) كما قال العقيلي.

وهكذا فقد تحول هذا الكتاب من مشروع خاص للإمام البخاري إلى مشروع الأمة الإسلامية، فنحن نعتقد بصحة ما فيه ونقره ونأخذ به؛ لأن الأمة قد قبلته بإجماع، لا لأن البخاري معصوم من الخطأ.

وبلا شك، إن قبول الأمة للكتاب ليس مجرد تقليدٍ قائمٍ على العاطفة أو العصبية للإمام البخاري، بل لأن المنهجية العلمية التي اتبعها كانت دقيقة وصارمة، وقد اختبرها العلماء فوجدوها عالية المعايير، وعبر العصور، تابع العلماء اختبار ما كتبه من أحاديث على هذه المعايير فوجدوها متطابقة، فشهدوا له بالإتقان، بل هو من أسس المنهجية العلمية الحديثية للآتين من بعده.

وبالرغم من احتمال وقوع البخاري في الخطأ، إلا أن العناية الفائقة التي لقيها هذا الكتاب من الإمام البخاري نفسه، والأئمة النقاد المعاصرين له، والعلماء اللاحقين، إلى جانب قبول الأمة له واتفاق العلماء على صحة محتواه إلا أمورًا قليلة؛ يجعل صحيح البخاري خاليًا من الخطأ أو قريبًا من ذلك.

وأولئك الذين يثيرون هذه الشكوك يصورون البخاري وكأنه يختار الأحاديث بإرادته ويعدّلها كما يشاء، بينما في الواقع هو يتبع المنهجية العلمية التي اتفق عليها العلماء قبله والذين عاصروه.

وختامًا نقول إنَّ هذا الدفاع ليس فقط عن صحيح البخاري، بل عن المنهج العلمي في العلوم الشرعية بشكل عام، وفي مناهج المحدثين بشكل خاص، وأي نقد خارج هذه القواعد والضوابط التي تعارف عليها أهل الاختصاص بهذا الفن فنضرب به عرض الحائط ولا كرامة.

د. عبد القادر محمد الزوبعي