لماذا المتقدمين من نقاد عصر الرواية ؟
تحدثنا كثيرًا عن ريادة نقاد عصر الرواية المتقدمين على من سواهم حكمًا، وتأصيلًا، ومعرفةً، وذلك لأمور عدةٍ، ومنها: أولأ: الخلفية العلمية التي تَحَصَّلَ عليها هؤلاء النقاد من رحلتهم الطويلة في حفظ الروايات، فجاء نقدهم نقد محفوظات في قلوبهم، لا نقد روايات استوطنت في كتب الرواية الموروثة نحو المتأخرين وحالنا المعاصر. ثانيأ: معايشة ذات الرواة الذين وَقَعَ الوَهمُ عليه أو منهم، هذه المعايشة تَكشِفُ لنا كيفية وقوع الوهم، فأنى لنا أن نعرف هذا من غير اعتماد قولهم مقرراتهم. نضع بين أيديكم هذا المثال من قول أبي زرعة، ونحلله: قال البرذعي: “ذكرت لأبي زرعة عن مسدد، عن محمد بن حمران عن سلم بن عبد الرحمن، عن سوادة بن الربيع: “الخيل معقود في نواصيها”؟ فقال لي: “راوي هذا كان ينبغي لك أن تكبر عليه ليس هذا من حديث مسدد. كتبت عن مسدد أكثر من سبعة آلاف، وأكثر من ثمانية آلاف، وأكثر من تسعة آلاف ما سمعته قط ذكر محمد بن حمران. قلت له: روى هذا الحديث يحيى بن عبدك، عن مسدد. فقال: يحيى صدوق، وليس هذا من حديث مسدد. فكتبت إلى يحيى. فكتب إليَّ: “لا جزى الله الوراق عني خيراً، أدخل لي أحاديث المعلى بن أسد في أحاديث مسدد ولم أميزها منذ عشرين سنة، حتى ورد كتابك وأنا أرجع عنه فقرأت كتابه على أبي زرعة. فقال: “هذا كتاب أهل الصدق”. الضعفاء 2/579. قلت(عبدالسلام): نقف مع هذا النص أمام النقاط الآتية: 1. حكم أبو زرعة حكما عامًا على هذا الحديث، ثم فصل بعد ذلك، وحينما فصل تبين لنا حجم المعرفة العلمية الحديثية التي أصدر منها حكمه، وهنا نلفت النظر إلى الأحكام النقدية التي لم يفصل فيها الناقد أحكامه، فجاءت غير مسببة، والتي يسارع البعض إلى ردها بدعاوى متهافتة، أنها غير مسببة، وظاهرها يخالف الحكم النقدي. 2. تُمكن الخلفية العلمية نقاد عصر الرواية من معرفة أحاديث الرواة، ومعرفة الدخيل عليها، ولا يغتر هؤلاء بظواهر الإسناد بنحو ما يفعل المعاصرون، بالرازي هنا بين أن هذا الحديث لا يعرف من حديث مسدد، ودون هذا الحكم معرفة تامة بمرويات مسدد، وسياقتها من شيوخ وتلاميذ. 3. القرينة النقدية التي حكم من خلالها أبو زرعة على الرواية، والقرينة هذه يمكن أن نسميها بيئة الرواية، أو سياقات الرواية، والتي شكلها أبو زرعة من كتابة الاف الروايات عن مسدد، والتي ما سمع فيها رواية واحدة لمسدد عن محمد بن حمران، وهذه تشكل قرينة مهمة في العمل النقدي، يمكننا الكشف عنها في ضوء دراسة حالة الرواية والرواة ممن تدور العلة أو الاختلاف من حولهم. 4. يَتبَيَّن لنا من مراسلة أبي زرعة للراوي عن مسدد يحيى بن عبدك سبب علة هذا الحديث، وهو وراق يحيى حينما أدخل عليه أحاديث المعلى بأحاديث مسدد، فما عاد يميز بينها منذ عشرين عامًا. 5. بيد أن الناقد الحصيف الجهبذ أدرك هذه العلة، وبين الوهم فيها قبل معرفة السبب، وذلك بالمنهجية النقدية الرصينة التي ترسخت في عقولهم من حفظ الروايات، والمقارنة بينها، ومعرفة روايات الشيوخ، وما أدخل عليها، فلله درهم من جهابذة. 6. الإشكالية التي قد نجدها في الحكم على هذا الحديث ما يقع من الاغترار بظاهر الإسناد، والمتابعة، فقد رواه عن محمد بن حمران: خليفة بن خياط، وأبو كامل، و المعلى بن أسد. وتابع محمدا عليه المرجى بن رجاء، و سلمة بن رجاء. فقد يأتي من يحكم على رواية مسدد بالصحة للمتابعة التامة والناقصة. وهنا ننبه على أن المتابعة التامة والناقصة لا تنفع ولا يُعمل بها في حال وجود الخطأ.
د.عبد السلام أبوسمحة أستاذ مشارك في الحديث / كلية الشريعة والدراسات الإسلامية Qatar University