منهج الانتقاء عند الإمام البخاري وعلاقته بنقد المتن
ورقة بحثية بعنوان: منهج الانتقاء عند الإمام البخاري وعلاقته بنقد المتن:
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد وآله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين أما بعد.
فقد اتبع الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتابه الصحيح طريقة الانتقاء، فكان ينتقي أحاديثا معينة ويضمنها في كتابه الصحيح، ويترك أحاديثا أخرى صحيحة ويتجنب روايتها في صحيحه، وهي مروية عند غيره من المصنفين.
ثم ينتقي البخاري رحمه الله بعض الأحاديث للأبواب الفقهية التي يعنون لها بعناوين تدل على ترجيحها على غيرها من الأحاديث التي رواها في أبواب أخرى وهي تتعلق بالموضوع أو الحادثة نفسها.
فهذان نوعان من الانتقاء عمل بهما الإمام البخاري في صحيحه، فما هو الهدف من ذلك؟، وخاصة إذا عرفنا أن عملية الانتقاء كلها هي في دائرة الصحة بالنسبة للأسانيد.
فيبدو واضحا أن من أهداف الإمام البخاري في منهج الانتقاء للكتاب وللأبواب هو النقد والترجيح لبعض المتون على بعض، وهذا يضاف إلى الهدف الرئيس من الانتقاء وهو الاختصار وعدم الإطالة.
وفي هذه الورقة سأبين ببعض الأمثلة لملامح نقد المتن عند الإمام البخاري في صحيحه من خلال منهجه في الانتقاء وذلك في مطلبين:
المطلب الأول: الانتقاء للكتاب.
فقد يعمد الإمام البخاري إلى مجموعة من الأحاديث الصحيحة في موضوع معين أو حادثة معينة وينتقي منها متونا محددة ويترك المتون الأخرى، مع اشتراك هذه الأحاديث في الصحة وفي الموضوع الواحد أو الحادثة الواحدة.
فمن أمثلة ذلك عدم إخراجه لحديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه في موضوع الصيام في السفر في قصة فتح مكة الذي أخرجه الحميدي في مسنده عن سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وأخرجه مسلم في صحيحه عن طريق عبد الوهاب ابن عبد المجيد، وغيرهم عن الدراوردي بهذا الإسناد، وهذه أسانيد في غاية الصحة.
قال مسلم: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: «أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ».
فالبخاري ترك هذا الحديث ولم يروه، بينما أخرج حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في كتاب الصيام بَابُ مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، فقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ، فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ”، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ».
فقد جاء البخاري بحديث ابن عباس رضي الله عنه لأنه بدون زيادة: [أولئك العصاة]، مع تعليق ابن عباس على معنى الحديث.
والسبب في تجنب حديث جابر وروايته لحديث ابن عباس هو أن البخاري يرى ترجيح أحاديث جواز الصيام في السفر على الأحاديث الأخرى التي تعارضها وخاصة حديث جابر حيث إن معارضته لأحاديث الجواز تحتاج إلى تأويل في أقل تقدير.
وبالفعل فقد بوب الإمام البخاري لذلك في أبواب عدة يظهر فيها ترجيحه لأحاديث جواز الصيام في السفر، منها بَابٌ: لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّوْمِ وَالإِفْطَارِ، وأخرج حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، وَلاَ المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ».
ومن أمثلة ذلك حديث ثوبان ورافع بن خديج وشداد بن أوس وغيرهم كثير مرفوعا: [أفطر الحاجم والمحجوم]، وبعض هذه الأسانيد رجالها رجال الصحيح.
فقد تجنب البخاري هذا الحديث ولم يخرجه مسندا مع صحته، ولصحته حكم الجمهور بنسخه، ولكون النسخ غير ظاهر تماما عند بعض العلماء لذلك أولوه.
فمع صحة هذا الحديث لم يخرجه البخاري، وأخرج ما يدل على جواز الحجامة للصائم.
كحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ».
وحديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: «لاَ، إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ»، وَزَادَ شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن الأمثلة التطبيقية الأخرى على ملامح نقد المتن عند الإمام البخاري من خلال طريقة الانتقاء هو أخرجه لحديثين عن جواز الشرب قائما، وتركه أحاديث النهي عن الشرب قائما وهي على شرطه كحديث: يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، ” أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا”، قُلْتُ: فَالْأَكْلُ؟ قَالَ: ” ذَاكَ أَشَدُّ”، وحديث وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا”.
فعلى الرغم من أن النهي فيه احتياط عند كثير من العلماء، ويقدم على الإباحة عند كثير من العلماء، فقد ترك البخاري أحاديث النهي عن الشرب في حال القيام وهي غاية في الصحة، وروى المتون التي بخلافها.
إن هذا النوع من الانتقاء هو في الحقيقة ترجيح لمتون معينة على غيرها، ونقد لمتون الأحاديث المقابلة لها، وهذا يعني أن الإمام البخاري كانت عنده دراية تامة بمتون الأحاديث ومعرفة واسعة بفقه هذه الأحاديث ومعانيها، ولا تقتصر معرفته على الأسانيد وحسب.
المطلب الثاني: الانتقاء للأبواب الفقهية.
فقد كان الإمام البخاري ينتقي بعض المتون ويبوب لها بما يدل على الاستدلال بها على مسألة معينة وترجيحها على متون يرويها في أبواب أخرى.
ومن الأمثلة على ذلك ما أخرجه في كتاب الحج عن مسألة المبيت بالمحصب، فقد أخرج البخاري في كتاب الحج بَابُ نُزُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ بِمِنًى: «نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ» يَعْنِي ذَلِكَ المُحَصَّبَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ، تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، أَوْ بَنِي المُطَّلِبِ: أَنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ سَلاَمَةُ، عَنْ عُقَيْلٍ، وَيَحْيَى بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، وَقَالاَ: بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي المُطَّلِبِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: «بَنِي المُطَّلِبِ أَشْبَهُ».
وفي بَاب طَوَافِ الوَدَاعِ أخرج عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدَّثَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ، وَالعَصْرَ، وَالمَغْرِبَ، وَالعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى البَيْتِ، فَطَافَ بِهِ»، تَابَعَهُ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي خَالِدٌ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذه الأحاديث تبين أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قصد المحصب ليصلي فيه فالصلاة فيه سنة، وإن لم تكن من سنن الحج، وإلى ذلك ذهب كثير من الصحابة والفقهاء من بعدهم.
فالبخاري بعمله هذا انتقى هذه المتون وبوب لها بهذه الأبواب ليؤكد سنية المبيت بالمحصب، ويرجح هذه الأحاديث على غيرها، فقد أخرج حديث عائشة وابن عباس وهما حديثان ينفيان سنية النزول بالمحصب، وبوب لهما بقوله: باب المحصب.
وهذا العمل فيه فوائد منها:
أولا: تحشيد الأدلة التاريخية لحصول الواقعة، فلا شك فإن جميع الأحاديث سواء المثبتة لسنية المبيت بالمحصب أو النافية للسنية هي تؤكد حصول المبيت في المحصب.
ثانيا: استنباط المعاني من الروايات التي فيها دلالة على حكم معين وترجيحها على غيرها من الروايات الأخرى في الحادثة الواحدة، وهذا يدل على سعة علم الإمام البخاري وعمق فقهه بالأحاديث النبوية، وهناك أمثلة تطبيقية أخرى تدل على ملامح نقد المتن عند الإمام البخاري من خلال طريقة الانتقاء.
د. عطاالله مدب حمادي الزوبعي