أقطار السموات والأرض في القرآن والسنة وكشف شبهة النفاذ منهما:
أقطار السموات والأرض في القرآن والسنة وكشف شبهة النفاذ منهما:
قال تعالى: [يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)] سورة الرحمن.
هذه الآية المباركة فيها تحد للجن والإنس بعدم استطاعتهم النفاذ من أقطار السموات والأرض إلا بسلطان من الله تعالى، ومعنى السلطان هو تمكين الله تعالى لمن يشاء من عباده، فلا نفاذ للإنسان من أقطار السموات والأرض إلا بتمكين الله تعالى له.
وقد طُرحت شبهة حول هذه الآية من قبل بعض الباحثين مفادها أن الإنسان قد خرج من أقطار السموات والأرض ووصل إلى القمر، وهو يحاول الوصول إلى المريخ، فكيف يستقيم هذا التحدي في الآية؟.
وقد أجاب كثير من العلماء عن هذه الشبهة إجابات عدة، وردوها بردود جيدة، ولكن دون التطرق إلى دلالة لفظ (أقطار السموات والأرض) على معناه، لذلك بقي في هذه الإجابات والردود بعض الثغرات التي تطل منها ملامح الشبهة على بعض الناس.
وأذكر هنا جانبا من ردود العلماء على شبهة نفاذ الإنسان من أقطار السموات والأرض مع بيان نقاط القوة والضعف فيها، ثم أبين معنى أقطار السموات والأرض في القرآن الكريم، مستعينا بالتفسير الموضوعي للآيات القرآنية وبالاحاديث النبوية وأقوال علماء اللغة، ومن الله التوفيق.
أهم الردود على شبهة نفاذ الإنسان من أقطار السموات والأرض:
الرد الأول: إن المقصود من الآية هو يوم القيامة، فلا يستطيع أحد أن ينفذ من أقطار السموات والأرض هربا من شدة الموقف.
وهذا الرأي مروي عن بعض السلف ولكنه ليس هو الرأي الوحيد في المسألة، بل هناك رأي آخر وهو أن المقصود من الآية في الحياة الدنيا، وهذا الرأي أقوى من الأول، إذ لا حاجة إلى ارسال الشواظ من النار والنحاس يوم القيامة، لأن الملائكة تحيط بالناس من كل جانب، فتبقى الشبهة قائمة على الرأي الأخير.
الرد الثاني: إن خروج الإنسان عن جاذبية الأرض ووصوله إلى القمر لا يعد خروجا عن أقطار السموات والأرض، وإن القمر ما هو إلا كوكب تابع للأرض ويدور في فلكها.
ولا يخفى على أحد من أهل العلم أن هذا الرأي لا يحل المشكلة فيما لو وصل الإنسان إلى المريخ وتجاوزه إلى ما بعده من كواكب أخرى، وهناك من يثير قضية البحث العلمي المفتوح في اكتشاف الفضاء، فهو يراهن على مسألة الوقت في الوصول إلى أعماق أخرى سحيقة في الفضاء.
الرد الثالث: إن الإنسان قد نفذ من أقطار السموات والأرض بسلطان العلم والتكنلوجيا، وإن الله تعالى هو الذي فتح على الإنسان هذه العلوم والمعارف، فيكون النفاذ بإذن من الله سبحانه وتعالى.
وهذا الرأي الأخير يعد خطأ في تقدير معنى أقطار السماوات والأرض، وكذلك خطأ في معنى السلطان، ولو كان العلم هو السلطان لما كان هناك معنى لوجود التحدي في الآية أو لوجود الآية أصلا، ولا لقوله تعالى في الآية التي بعدها: [يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)] سورة الرحمن.
معالجة الشبهة:
من أجل معالجة هذه الشبهة ورفع إشكالها لابد من معرفة المقصود من لفظ أقطار السموات والأرض في الآية، ومن خلال ذلك يمكننا الإجابة عن السؤال التالي: هل حركة المركبات الفضائية في الفضاء يعد خروجا عن أقطار السموات والأرض؟.
إذن لابد والحال هذه من النظر في الآيات الأخرى والأحاديث النبوية التي تتعلق في هذا الموضوع وجمعها لمعرفة الدلالات المشتركة بينها فيما يخص معنى أقطار السماوات والأرض.
ومن المعلوم أن قطر الشيء هو المسافة بين ناحيتين متقابلتين منه، وهذا يعني أن قطر الشيء هو داخل حدود الشيء نفسه، ولا يتعداه إلى مكان آخر غيره، أو مسافة خارجه عنه، وفي هذا المعنى أخرج البيهقي في الكبرى حديثا عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ بِأَرْضِ فَيْءٍ فَيُؤَذِّنُ بِحَضْرَةِ الصَّلَاةِ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ فَيُصَلِّي إِلَّا صَفَّ خَلْفَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يُرَى قُطْرَاهُ يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ”[1].
ومعنى قطراه في الحديث هو الامتداد في الجهات الأربع، كل قطر هو بين طرفين متقابلين، ويمثل جهتين متقابلتين للمساحة التي تشغلها الملائكة، فلو نطر ناظر من بداية أحد القطرين فإنه لا يستطيع رؤية نهايته لكثرة الصفوف الممتدة في الأفق.
وعلى هذا فإن قطر الأرض هو سمكها، أو هو المسافة بين نقطتين متقابلتين على طرفيها، ولأجل النفاذ من قطر الأرض لابد من اختراق الأرض نفسها ابتداء من سطحها باتجاه الداخل والعبور إلى الجهة المقابلة، وهذا أمر يعد مستحيلا في حسابات القدرات البشرية.
وقد كانت هناك تجارب في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي وألمانيا في زمن الحرب الباردة لحفر أعمق حفرة في الأرض، فلم يصلوا إلى أكثر من اثني عشر كيلو مترا، ثم توقف العمل، وذلك لارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير بحيث أدى ذلك إلى توقف العمل، علما إن قطر الأرض يقرب من اثني عشر ألف كيلو مترا.
فإذا كان الإنسان قد عجز عن النفاذ من أقطار الأرض فكيف له أن ينفذ من أقطار السماوات التي لم يستطع الإنسان أن يرصد حدودها التي تتجاوز مائة مليار سنة ضوئية.
أما قطر السماء فهو سمك السماء نفسه، وهو المسافة بين ناحيتين متقابلتين منها، قال تعالى: [أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)] سورة النازعات،
قال الزمخشري: سمك الله السماء و”رفع سمكها”، وهو رب المسموكات السبع[2].
وقال الكفوي: أَي جعل مِقْدَار ارتفاعها من الأَرْض أَو ثخنها الذَّاهِب فِي الْعُلُوّ رفيعا[3].
وكلام الزمخشري والكفوي فيه دقة عالية وعناية فائقة باللفظ المتعلق بالمعنى، ومعنى كلام الزمخشري (سمك الله السماء) يعني بناها، وجعل لها سمكا، ثم قال الزمخشري: و”رفع سمكها”، وهذا الكلام موافق تماما للآيات السابقة، حيث إن الله تعالى بناها أولا وجعل لها سمكا، ثم رفع بناءها.
وهذا المعنى موجود أيضا في كلام الكفوي، فالارتفاع للسمك، بمعنى رفع الله جرم السماء عاليا بغير عمد ترونها، وجعل ما تحتها فضاء عميقا لها، كما قال تعالى: [اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا] آية (2) سورة الرعد، أما قول بعض المعاصرين: سمَك اللهُ السَّماءَ: رفعها وأعلاها”، فهو كلام قد يحتاج إلى دقة في الصياغة من جهة المعنى.
والسماء مادة كثيفة محبوكة وليست مهلهلة، ولذلك وصفها الله تعالى بالسقف، قال تعالى: [وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)] سورة الأنبياء، وقال تعالى: [أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)] سورة ق، وقال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)] سورة الأعراف، فالآية جعلت للسماء أبوابا، وهي لا تفتح إلا بإذن الله، بينما الفضاء تحت السماء مفتوحا للحركة.
ولذلك نجد في حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم في صحيحه في موضوع معراج رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان جبريل عندما يصل إلى السماء يستأذن فيفتح له باب السماء ويؤذن لجبريل ولرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالدخول.
إن هذه الأدلة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فيها تأكيد لبينونة السماء عما تحتها من فضاء، وإن ما بين السماء والأرض ما هو إلا فضاء وأجواء والتي فيها تتم حركة الطيور وبدرجة أعلى حركة الطائرات والرياح والسحب وبدرجة أعلى المركبات الفضائية.
لذلك نجد أن كثيرا من الآيات قد فصلت بين السماء والأرض بلفظ وما بينهما، قال تعالى: [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)] سورة المائدة.
فهذه المسافة البينية بين السماء والأرض هي ليست من السماء ولا من الأرض، وإنما هي فضاء وأجواء بينهما، وهذه الفضاءات لا تعد من أقطار السموات والأرض، فيكون وصول الإنسان إلى القمر وإرسال المركبات إلى المريخ وما بعده من فضاء لا يعد نفاذا من أقطار السموات والأرض، لأن سير المركبات الفضائية هو في أجواء وفضاءات بين السماء والأرض، وليس في السماء نفسها، قال تعالى: [أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)] سورة النحل، فالطير هي تسبح في جو السماء وليس في السماء، وجو السماء هو الفضاء بين السماء والأرض، وكذلك السحاب فهو مسخر بين السماء والأرض، قال تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)] سورة البقرة، إن هاتين الآيتين الأخيرتين من سورة النحل وسورة البقرة وأمثالهما فيهما زيادة تفصيل على غيرهما من الآيات التي ذكرت السماء، وبذلك يرد المجمل إلى المفصل.
وبهذا المعنى يكون اكتشاف الإنسان للفضاء وسبر أغواره في أي عمق فيه غير معارض بالآية السابقة من سورة الرحمن، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين، كتبه عطاالله مدب حمادي الزوبعي.
[1] السنن الكبرى، البيهقي، رقم (1908).
[2] أساس البلاغة، الزمخشري، ج 1، ص 475.
[3] الكليات، الكفوي، ج 1، ص 518.